سؤال الهوية بين سقراط والقدافي ومدير ثانوية ابن سينا بطنجة
يعتبر سجل التاريخ الذاكرة الحية الشاهدة على أن أشخاصا رحلوا عنا
وأصبحوا في ''خبر كان'' من الناحية الزمنية. لكنهم لازالوا يتواجدون معنا،لأن الأقوال
المأثورة عنهم تبعث الروح في أجسادهم
لتذكر البشرية كلها بوجودهم وحكمتهم أو حتى بسذاجتهم وغبائهم ...
فعندما تقرأ عبارة ''أيها
الإنسان اعرف نفسك بنفسك '' تعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد لتتذكر الحكيم
سقراط .. ولكن عندما تتساءل "من أنتم؟''
فإنك، ومن دون شك، تتذكر رئيس الجمهورية ، معمر القدافي، الذي رحل عنا قبل شهور.
ومن العجيب والغريب أن بين سقراط والقدافي تشابهات عدة،منها ما يتعلق
بأن نهايتهما معا كانت مأسوية تراجيدية لأنهما لم يموتا وإنما قتلا بسبب ما كانا يؤمنان به من أفكار. أما التشابه
الثاني،فيتجلى في أن القدافي يعد سقراط القرن الواحد والعشرين،على اعتبار أن سؤاله
''من أنتم؟'' سؤال يتعلق بالهوية،كما هو شأن عبارة سقراط التي تدعو إلى إدراك الهوية/الماهية
عن طريق الذات.
ورغم أن عبارة/ سؤال القدافي لا يرقى إلى مستوى عبارة سقراط - لأن هذه
الأخيرة عبارة عن دعوة صريحة وأمر بالعودة نحو الذات من أجل معرفة الحقيقة (حقيقة
الذات)، إلا أن سؤال الأول (أي القدافي) عبارة عن تذكير صارخ للأمر السقراطي
بطريقة ''كوميدية''، وهو الأخر يروم استكناه واكتشاف هوية المُخاطَب، وبنفس المنهج
السقراطي في طرح السؤال: إنه منهج التهكم . غير أن سؤال القدافي أكثر تهكمية وأكثر
سخرية، بل هو سؤال تعجيزي لسببين اثنين : الأول،لأن السائل يعتقد أنه وحده من يعرف
الجواب. والثاني لأنه طرح في القرن الواحد والعشرين حيث يفترض من المسؤول أن يكون
على دراية تامة بماهيته وهويته.
إن البساطة اللغوية والتساؤلية التي صيغ بها سؤال القدافي ، وهو يخاطب
(فئة من) رعيته، تخفي وتضمر تعقيدا مركبا يتجلى في اشتماله على كل خصائص التفكير
الفلسفي من حيرة ودهشة وقلق. كيف لا، وهو سؤال ماهوي هوياتي. فهل يحق لحاكم حكم
شعبا مدة تزيد عن أربعة عقود أن يجهل هوية شعبه؟ هل كل ما قطعت ليبيا من أشواط
تاريخية وسياسية ليس بكاف لكي يكون رئيسها على دراية بهوية دولته؟ وبالتالي أية
مشروعية لطرح هذا السؤال في القرن الواحد والعشرين ؟
إنه من الغباء والسذاجة، ومن غير المعقول،أن تجد حاكما يجهل هوية رعيته وشعبه . بل إنه من غير المشروع
والمقبول أن يحكم شعبا لا هوية له. ولكن من الحكمة والفطنة أن يدرك أن هوية شعبه
ممزقة تستدعي التضميد والتشييد وإعادة التشكيل والتحديد، حتى لو كان ذلك في وقت
متأخر، لأن الهوية لا تعرف الزمن،ولكنها مرادفة للثبات والاتحاد.
عفوا أيها القدافي ! لم تكن ساذجا ولا
غبيا ولا حتى جاهلا بهوية شعبك، بل كنت حكيما سقراطيا أكثر من اللازم. لأنك لم تكن
تجهلهم،بل تجاهلتهم،وتجاهلك لم يدفعهم،وللأسف، إلى الإصغاء لنداء سقراط ليقولوا لك
'' من هم؟''، ولكن انتظروك تجيب بدلا عنهم (وهنا يظهر تهكمك) لتصفهم بـ''الجرذان''...
وكنت وفيا لهذا الوصف وهذا النعت لما أكدت بأنك ستنقب عنهم، ''زنقة ، زنقة، شبر
شبر.. حفرة حفرة..'' لأنه لا تخفى عنك أعشاش الجرذان وكهوفهم.
لقد كانت حكمة القدافي بقدر غباءه. فغباؤه ظاهر على مستوى كيفية طرحه
للسؤال، مع تقديمه الجواب بدل من يهمه الأمر (وهذا هو مكمن الاختلاف بينه وبين
سقراط،إذ أن هذا الأخير يحير المحاوَر بالأسئلة،لكنه لا يجيب مكانه - توليد
المعرفة/الحقيقة من الذات). وحكمته تتجلى في نوع السؤال الذي طرحه. لأنه كما يقال ''السؤال
نصف المعرفة''. لذا علينا أن نكون أحكم من حكمة القدافي لنفهم مغزى طرح هذا
النوع من السؤال، بدل التفكير في نوع الجواب. بل علينا أن نأخذ العبرة من غبائه
الذي قاده نحو تلك النهاية المأسوية، والتي أفقدته عجرفته وكبرياءه وشموخه وحطت من
كرامته. فهل انتم – يا من يهمهم الأمر- من المعتبرين؟! أم من المنتظرين؟!
من أوجه الاختلاف التي نجدها كذلك بين القدافي وسقراط، هي أن هذا
الأخير كان يدعو إلى تأسيس النظام الديمقراطي المبني على الكفاءة العقلية السياسية
في تدبير الشأن العام، أما القدافي فقد كان مؤيدا للنظام الديكتاتوري،ماسكا لزمام
أمور جمهوريته إلى أن فارق الحياة مرغما، بل قد كان ''رجلا'' متشبتا بمروءته وشهامته يخاطب ''الرجال''. واكثر من هذا، شهد تاريخه
السياسي عن مواقفه الطريفة الرجولية،فقد انسحب من الاجتماعات ''الفارغة'' التي
يحظرها ''المهرطقون'' .. كما وجه كلمات ساقطة مشينة إلى رؤساء دول اعتبروا أنفسهم
عظماء المرحلة التاريخية.. نعم، قد مات ذليلا، لكنه عاش كريما شامخا.
في هذه الأيام القليلة الماضية، تطالعنا
الصحف المغربية والمواقع الالكترونية على أنباء ''رجال'' أرادوا الاقتداء بالراحل القدافي
في رجولته ،وأسئلته، لكن ''بطعم'' أنثوي، وبدل السؤال الرجولي ''من أنتم؟'' طرحوا السؤال ''من أنتن؟''. إنه السؤال الذي طرحه مدير
مؤسسة ابن سينا(وما أدراك ما ابن سينا) بطنجة على أربع تلميذات بطريقة غير
مباشرة. فبدعوى أنهمن ارتدين لباسا ''محتشما'' اعتبرنه سترا لعوراتهن كما أمرهن
المشرع الحكيم، وحتى كما حدد القانون الداخلي للمؤسسة، إذ يجبرهن هذا الأخير على
ارتداء الوزرة لغايات يجهلها –ربما- واضع هذا القانون، زيادة على أن لباسهن لم يشف
غليل مدير المؤسسة،لأنه في نظره لباس غير تربوي، اضطر إلى توقيفهن عن دراستهن.
فلباسهن – بذاك الشكل- في نظره، يعد خرقا
لمقتضيات وبنود القانون الداخلي للمؤسسة،لأنه لا يستجيب ''حرفيا'' للكيفية التي ينبغي
ارتداء الوزرة بها (رغم انه لا يتوفر على
ما يكفي من الدقة والوضوح في هذه الكيفية). وإذ اعتبر لباسهن (غير طبيعي)، وقف حجرة عثرة أمام استفادتهم من حصصهم
الدراسية كحق مشروع ومنعهن من الدخول إلى المدرسة عن طريق عملائه.
ودون الدخول في مقاصد التلميذات من ارتداء
هذا اللباس ''المحتشم''، أي فيما إذا كان مبدأ وقناعة شخصية، أم هو مجرد أقنعة
جسدية؟ أو فيما إذا كن محرضات من طرف جهات معينة على ارتدائه لتوجيه رسالة معينة
لجهات أخرى،فإنه من الأولى، ومن الضروري، أن نسأل مدير المؤسسة لماذا يسألهن (من هن
؟)؟ هل سألهن بدافع أن التلميذات لم يحترمن القانون الداخلي بالفعل؟ أم أنهن
احترمنه أكثر من اللازم إلى درجة انه أصبح
حاملا لرسائل يمكن اعتبارها ''اديولوجية''؟ ولكن ما ذنب من أفرط في احترام
القوانين؟ هل يحق لـ''سيادة' المدير،وهل من الإنسانية، أن يطبق القانون حرفيا
؟أليس من المفروض والمطلوب التعامل مع روح القانون لاحترام حقوق الأفراد وكرامتهم
وحرياتهم في الاعتقاد؟ أم أن الأمر لا يتعلق بتطبيق القانون أو عدم تطبيقه ، بقدر
ما يرتبط بكونه مدفوعا من طرف جهات معينة
للتصرف بهذا الشكل ''السخيف'' الجائر وغير العادل، الذي لا ينصف الأفراد
(التلميذات)؟
على ما يبدو لنا،أن سؤال المدير ''من
انتن؟''، سؤال لا يحمل أية قناعات تربوية بيداغوجية،وليس مؤسسا على أية مبادئ
قانونية ولا أخلاقية. بل هو سؤال وراءه خلفيات فكرية واديولوجية. ويظهر هذا الأمر
جليا عندما نجده ''قذافيا سخيفا'' بامتياز في كيفية طرح السؤال، إذ هو الآخر لا
يجهل جواب سؤاله. فهو لا يجهل أنهن أولا تلميذات شأنهن شأن باقي تلامذة المؤسسة
الراغبين في استكمال رحلتهم التربوية. لكنه تجاهل هذا الأمر واكتفى بنعتهن ''بالسلفيات..الوهابيات..''
(كما جاء على لسان إحدى التلميذات المعنيات بالتوقيف).. وهي نعوت تَنِّمُّ وتكشف عن الخلفية التي دفعت به إلى توقيفهن، أي أن الأمر لا يتعلق
بعدم الامتثال للقانون الداخلي،وإنما بكونهن لا يوافقن اديولوجيته. فهل هذا
مسؤول تربوي عن مؤسسة تعليمية، أم ممثل سياسي لجهة معينة؟ وماذا يمكن أن تكون هذه
الجهة في آخر المطاف؟ لن أجيب لأنكم تعرفون الجواب.
بالفعل، لو استند المدير إلى الإطار القانوني
فقط لما وجد تعارضا بين الغاية من وضع القانون ولباس التلميذات. رغم أن القانون نفسه لم يكن
واضحا بما فيه الكفاية، لأنه لا يحدد الكيفية التي ينبغي أن ترتدي بها التلميذات
الوزرة، لأنه لا يتضمن طول الوزرة ولا عرضها ولا شكلها . كما أن الوزرة لباس يغطي
الأعضاء والأطراف العليا في الجسد (الظهر البطن واليدان)، ولا يتعلق بغطاء الرأس.
ولهذا نطرح على سيادة المدير الأسئلة التالية:هل حددت في قانونك الداخلي ضرورة
وضع غطاء الرأس،أم هو أمر اختياري؟ لو افترضنا انه إجباري،هل حددت شكله؟و ماذا لو
تعلق الأمر بتلميذات يرتدين الوزرة كما أَمِرن،ولكن من دون غطاء الرأس؟ فهل يَكُنَّ
بهذا الشكل ممتثلات للقانون الداخلي أم لا؟ ثم ماذا عن تلميذات يرتدين الوزرة مع
غطاء رأس عاد،لكن من دون سراويل محتشمة؟ هل حددت في قانونك الداخلي أنواع السراويل
وحجمها وشكلها وطولها وشدة التصاقها بجسد التلميذات؟ وإذا استطعت أن تضع قوانينا
تحدد هذه الأشياء،ألا تخشى أن تتحول مهمتك من مسؤول تربوي عن إدارة شؤون المؤسسة
إلى مجرد متتبع لعورات التلميذات؟ ثم ألا تخشى أن تُتَهم بالتحرش الجنسي عندما
تلامس سراويلهن لتتحسس درجة التصاقها بجسدهن و بعوراتهن؟ ولو فعلت هذا الأمر،
ستكون قد شرعت للتلميذات التي أوقفتهن أن يسألنك: ''من أنت؟''. بل لهن الحق في أن
يسألنك أنت وعملاؤك ومن أنت عميلا لهم: '' من أنتم؟'' وبهذا السؤال يصبحن
''مترجلات'' أكثر منك،لأن سؤالك أنثوي ('' من أنتن؟'') .
إذا كان العبقري هو من يصوغ السؤال بشكل
يوقع به الخصم في الفخ،سواء أقََََدم هذا
الأخير الجواب أو عجز عنه، فإن الغبي هو من يصوغ السؤال بطريقة توقعه في الفخ الذي
يبحث عنه لخصمه. وبالفعل، فقد طرح رئيس المؤسسة سؤالا على هؤلاء التلميذات لكي
يوقع بهن في الفخ،أي لكي يثبت أنهن (سلفيات ..ارهابيات..) ، إلا أنه بهذا السؤال
نفسه (من انتن؟) أوقع بنفسه في الفخ. إذ بطرحه لهذا السؤال، يكون قد أجبر نفسه على
أن يحدد موقعه وماهيته/هويته (أي من يكون هو؟)، بل حتى عملاؤه وأسياده،وكل من ينظر
إلى شبيهات هؤلاء التلميذات، على أنهن (ارهبيات .. سلفيات.. وهابيات.. ) وفي
الحقيقة، لو طرحوا هذا السؤال على أنفسهم،بل يفترض عليهم طرحه، لوجدوا أنفسهم في
مأزق،وسيخجلون لما يجدون أنفسهم – بقوة النص القانوني الدستوري- مجبرين على أن
يقولوا ( نحن مسلمون)، لأن هذا الأخير يعترف بان الدولة المغربية دولة
إسلامية. وقد جاء في تصدير مشروع الدستور
الجديد ما يلي : "المملكة المغربية دولة إسلامية" "كما أن الهوية المغربية تتميز بتبوء الدين الإسلامي
مكانة الصدارة فيها. بل حتى وإن لم يكن مسلما – بدعوى حرية الاعتقاد- فهو مطالب على أن
يؤمن بالمثل بالنسبة للآخر في أن يعتقد بكل حرية، مادام الفصل الثالث من الدستور
يقر بأن : "الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية". وهو ما يعني في كلتا
الحالتين انه ملزم على احترام لباس هؤلاء التلميذات وحريتهن الدينية. فإذا كُنَّ
يعتبرن أنفسهن مسلمات، بقوة النص القانوني،أو بمبدأ حرية الاعتقاد، فإنه لا يحق
لسيادة المدير أن يخترق النص الدستوري لتطبيق القانون الداخلي للمؤسسة. وبهذا
المعنى، يمكن ،افتراضا، أن نقول إن التلميذات اخترقن القانون الداخلي،(وهذا من حقهن،لأنه
يتعارض مع القانون الدستوري)، لكنهن، واقعيا وفعلا، احترمن النص الدستوري، مادام
هذا الأخير يعترف لهن بإسلاميتهن. وأَلَيس الإسلام – كشريعة ،وليس كمفهوم – هو من
أمرهن بما ارتدين، مصداقا لقول الحق تعالى: يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ
عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ
وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ''(الأحزاب- الآية 59)؟ وإلا حق لنا في
المقابل أن نتساءل : عن أي دولة إسلامية يتحدث مشروع الدستور الجديد ؟ أو بالأحرى عن أي
إسلام يتحدث إذا لم يكن يقصد الشريعة الإسلامية؟
من هذا تتضح لنا أهمية سؤال السيد القدافي، لأنه سؤال راهني، يدعو
''سيادة'' المدير وغيره إلى إعادة ترتيب أوراقهم وجمع شتات هويتهم الممزقة،وإعادة
النظر في قوانينهم،العامة منها والجزئية، مع تطبيقها وعدم تركها حبرا على ورق،
ودون تكييفها مع المصالح والأهواء
والاديولوجيات الفكرية. فالمطلوب هو أن تنزل القوانين من الرفوف لتلامس الواقع، أي
أن تخرج من حيز الشعارات الفضفاضة البراقة إلى حيز التنزيل العملي الواقعي
الملموس. بل أكثر من هذا، ينبغي صياغتها بشكل واضح،بما لا يترك مجالا للتشكيك في
هويتنا. وإلا فل نقل للقدافي شكرا، لأنه نبهنا إلى النزيف الذي ينسف هويتنا، كما
دعانا إلى بنائها وإعادة تشكيلها. فقد سألهم ( من أنتم ؟)،ولكن بهذا السؤال يكون
قد أجبرنا أيضا أن نسال- في القرن الواحد والعشرين - أنفسنا (من نحن؟)، لأن
الوضع الحالي لهويتنا لا يبعث عن الارتياح ولا الطمأنينة، بقدر ما ينبئ بالأزمة
الوجودية. وهذا في حد ذاته يشترط سؤالا أكثر حرجا وقلقا، وهو من يحدد هوية
الشخص، هل يمكن القول أن كونه ''إنسان'' فهويته
لا تحتاج إلى تشكيل ولا بناء ولا تحديد ولا اعتراف؟ وبالتالي بماذا تتحدد
إنسية الإنسان؟ أم أن هويته لا تتحدد إلا
بكونه فردا ومواطنا اجتماعيا داخل دولة معينة؟
هذا الأسئلة وغيرها، هي التي سنحاول الإجابة عنها في مقالنا المقبل –
بإذن الله – تحت عنوان : سؤال الهوية بين الأصل الكوني المطلق والاعتبارات
الاجتماعية (..فانتظرونا)
ذ. سعيد الطاهري
06/05/2013